القهوة و الكافيين و المؤامرة الكبرى

كعضوٍ بارزٍ و متعصب في حزب الشاي و أحد الكارهين للقهوة و كل مشتقاتها جلست أمام الحاسب بجانبي كوب "منعنع" من الشاي الاخضر و المطعّم ببعض الأوراق النباتية النافعة محاولاٌ أن أجد موضوعاً جيداً لأكتب عنه وبعد التفكير لبرهة قررت أن أتحدث قليلا عن القهوة و عن ما إذا كانت القهوة حقاً تقوم بتنشيطنا و تنبيهنا كما هو المتعارف عليه و ما هو الثمن وراء هذا التنشيط

ملاحظة 1 : المقال متحيّز جداً و لا أنصحك أن تتخذه مرجعاً علمياً
ملاحظة 2 :
إذا كنت مسافر عبر الزمن من عصر الخلافة العباسية و جالساً أنت و الخوارزمي جنباً بجنب تقرؤون هذه المدونة فلا أنصحك البتّه أن تطلب من أي أحد بجوارك أن يجلب لك كأسا من القهوة لأنه على الغالب سيجلب لك خمراً و ستنتهي القصة بشجار لسوء في الفهم (في أحسن الأحوال)

إذاً , فلو بحثنا قليلاً عن القهوة في العصر العباسي سنجد أن البحتري (وهو أحد أشهر الشعراء العرب في العصر العباسي) مثلاً يقول

من قهوة تنسي الهموم وتبعث
الشوق الذي قد ضل في الأحشاء
.....
يخفى الزجاجة لونها فكأنها
في الكف قائمة بغير إناء

و كذلك الأعشى عندما قال

معتَّقةٌ قهوةٌ مُزَّةٌ
لها زَبَدٌ بين كوبٍ ودُنٌّ

فالقهوة التي أشير إليها في الأبيات السابقة والقهوة التي يعرفها الناس قديماً ليست هي ذاتها التي نعلمها نحن وإنما كان لها في العصر العباسي معناً مغايراً جدًا لما نعرفه عن القهوة في عصرنا الحالي

فقد شاع عند العرب قديماً إستخدام لفظ "قهوة" على الخمر و سميت الخمر قهوة لأنها تقهي شاربها عن الأكل أي تزيل نيّته عن الطعام

فيُذكر في معجم لسان العرب "القهوة :- و هو الخمر، سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام أَي تذهب بشهوته، وفي التهذيب أَي تُشبِعه"

و أستمرّ هذا الإصطلاح على نحوه حتى منتصف القرن الخامس عشر عندما كان الفقيه الصوفيُ أبي بكر بن عبد الله الشاذليُّ يترحّل في غابات اليمن فوجد شجرة البن فأخذ منها ليقتات بها في رِحالِه وعندما رجع لمسكنه قام بغليها وشرب منها و عندها أُعجب بها لِما تمنحه إياه من القدرة على السهر فأصبح يوصّي و ينصح بها أتباعه لتعينهم على قيام الليل و على العبادة حتى إنتشرت في اليمن وفي النهاية سمّوا هذا الشراب بالقهوة

من هنا بدأت قهوة البن بالإنتشار في اليمن و من ثم في أرض الحجاز الى الشام وصولا للقاهره و لم تتوقف هنا فحسب بل واصلت تمددها لإسطنبول وأوروبا حتى أصبحت في يومنا هذا أكثر المشروبات شرباً في العالم بفرق شاسع و ثاني أكثر المنتجات تداولاً حول العالم بعد النفط أو البترول مباشرة

و في الوقت الحالي أصبحت القهوة رائجة جداً للدرجة التي لن ترى فيها منزلاً يخلو ممن يستهلكها في اليوم مرة أو مرتين على الأقل
إذاً ما الذي يجعل القهوة رائجة بهذا الشكل و لماذا هي محبوبة الملايين هكذا ؟

عندما اسأل عامة الناس فعادة ما تكون الإجابة "لأنها تعدّل مزاجي" أو "لأنها تحفزني و تنبهني في وقت العمل" و بعض الإجابات الأخرى على هذا النحو

فهل تقوم القهوة حقاً بتحفيزنا و ماهو السر الحقيقي وراء ذلك ؟

و من هنا بدأ التحقيق
قمت في البداية و كمحاولة للإجابة عن هذه التساؤلات بإجراء مقابلة صحفية مع أحد النجوم الساطعة و تحديداً نجم المثقفين و رفيق الأدباء , نعم فنجان القهوة شخصياَ :

interview with coffee

و لكن لن أخفي عليكم الأمر , فأنا لم أخرج بفائدة حقيقية من هذا اللقاء فقد كان فنجان القهوة مغروراً جداً و كان يدور و يلف طوال الوقت حول أسألتي محاولاً أن يراوغها قدر المستطاع ليتجنب الدلو بأسراره أو لأسباب اخرى أجهلها و لكنّه و لحسن الحظ تلعثم في خضم الحديث و ذكر إسم"الكافيين" من دون قصد ثم أحسست عليه التوتر و سرعان ما قام بتغيير الموضوع بشكل مباشر
هنا إنتابني شعور بأني قد أمسكت بطرف الخيط لذلك قمت بتدوين هذا في مذكّرتي و شرعتُ في البحث عن السلاح السري الذي تخفيه القهوة … "الكافيين"

paper from notebook
إذاً ما هو الكافيين؟

الكافيين يعتبر "محفّز" و منبه كيميائي للجهاز العصبي المركزي و يُعتبر من العقاقير نفسانية التأثير و الأكثر إستهلاكاً عند البشر مصنّف من المخدرات المنشطة و من "المثبطات لمستقبلات الأدينوسين" كما أنه يوجد بشكل مركّز في حبّات البن --القهوة-- و في كل من بذور الكولا (kola nuts) و نبتة الشاي

لمعرفة آلية عمل هذا السلاح السري يجب علينا أن نعرف أولاً الأدينوسين و ماهي مستقبلاته و لماذا الكافيين يُعتبر مثبّط لمستقبلات ,الأدينوسين …

و لتبسيط الأمر سنستعرض هنا فترة حياة الكافيين الموجودة بحبة البن بالتفصيل:

و كما قلنا فالكافيين هي مادة شبه قلوية تتواجد بكثرة في حبة البن و وظيفتها الرئيسية في النباتات هي حمايتها من الآفات و الحشرات الضارة حيث أنها بقدرة الخالق سبحانه و تعالى بمثابة مبيدات الآفات التي تشلّ وتقتل بعض الحشرات التي تتغذى على هذه النباتات

laser sword with Caffeine

و يستمّر الكافيين بالقيام بعمله و يستمر في حماية البن إلى أن يأتي موسم الحصاد ..

فبعدما أن تكون شجرة البن قد أزهرت زهور التي ستكون حبات البن بداخلها يأتي موسم الحصاد أي بعد ما يقارب خمس سنوات من الزراعة و يبدأ المزارعون بجنيّ حبات البن على الطريقة اليدوية أو عن طريق الجرارات و يُجمع البن في مجموعات متفرقة لفرزها و بعد أن يتم معالجتها و تجفيفها و تحميصها تأتي مرحلة الطحن و من ثم التعليب ليأتي و يشتريها المستهلك

و في صباح أحد الأيام المشرقة يستيقظ أحد مدمني القهوة ليشرب كوب قهوته لكي تعطيه القوة على تحمل يومه , فيقوم بغلي الماء مع القهوة مضيفاً إليها القليل من السكر و يبدأ في "احتسائها" …. و هنا تبدأ رحلة الكافيين الحقيقية داخل جسم الإنسان

في البداية تذهب القهوة إلى المعدة لتُهضم ( حيث تستغرق عملية الهضم في العادة ساعة إلا ربع) ثم ينتقل الكافيين من المعدة إلى مجرى الدم

Caffeine in the blood

و من مجرى الدم ينتقل الكافيين إلى الدماغ و تحديداً إلى الجهاز العصبي المركزي عن طريق حاجز الدم في الدماغ - blood brain barrier - و ليتعرّف هناك على " صديقه" الجديد .... الأدينوسين

حسنا في الحقيقة الموضوع أعقد من هذا بكثير و لكنه لا يزال يأخذ نفس المبدأ فالكافيين هو خصم الأدينوسين adenosine antagonist وهذا يعني بأن الكافيين دائماً ما يحاول أن يمنع الأدينوسين من القيام بعمله .

عقلك مليء بالمفاتيح التي لا تدخل إلا في فتحات أقفال مخصصة لها , و الأدينوسين واحدة من هذه المفاتيح و لكن ولسوء الحظ فالكافيين يملك مفتاح شبيه جداً و هو أيضاً يستطيع أن يدخل في نفس القفل

و عندما يدخل الكافيين في ذلك القفل و يبقى معتكفاً هناك فهو في هذه الحالة يمنع الأدينوسين من الدخول لتلك الفتحة و الأدينوسين بدوره يقوم بالكثير من الأشياء في جسدك و لعلّ أشهرها و أكثرها وضوحاً هو قمع و كبح الجهاز العصبي المركزي

و مع الكافيين العالق في تلك الفتحه لن يستطيع الأدينوسين تهدئة ذلك الجسد و لن يجعله يشعر بالنعاس و نتيجة لذلك سيصبح الجسد مستيقظاً لمدة أطول و هذا الشعور الذي ستشعر به عندما تشرب الكثير من القهوة هي نفسها حالة الطوارئ التي يعيشها الدماغ الذي لا يستطيع أن يطفئ نفسه

لكن الموضوع لم ينتهي هنا فحسب فالدماغ لن يسكت و سيأخذ موقفاً من كل هذا اللعب ليفسد عليك معيشتك طبعاً

a lote of adenosine receptors

و عندما تتكرر هذه الحادثة سيبدأ الدماغ كإجراء تعويضي بتوليد المزيد من الفتحات للمفاتيح و النتيجه سيصبح عقلك مليء بمستقبلات الأدينوسين و سيصبح حساس جداً للأدينوسين و عندما تنام لمدة 8 ساعات و تستيقظ , ستجد عقلك يعوم في محيط من الأدينوسين و ستشعر و كأنك مغني روك يصرخ في حفلة صاخبة و لن تنتهي هذه الحفلة حتى تشرب كوبك الخاص من القهوة الذي سيعدّل من مزاجك و الذي هو السبب الرئيسي لهذا المزاج أصلاً

والنتيجة هو أنك ستشرب ذلك الذهب الأسود لا لكي ينشطك و يحفّزك و ينبّه عقلك بل فقط لكي يعيدك من منطقة السالب إلى منطقة الصفر من جديد

بالإضافة إلى أنّ القهوة تحفّز بعض الغدد لإفراز مجموعة من الهرمونات كالأدرينالين والدوبامين ليشعرك ببعض المشاعر الزائفة التي سرعان ما ستزول لتكون في مكانها مشاعر سلبية أخرى

وهنا ستصبح أنت ذلك المدمن لأحد أكثر المخدرات القانونية رواجاً مقيداً بسلاسل لا تستطيع الهروب منها

و في الختام أود حقاً أن أعرض عليك الإنضمام معنا في حزب الشاي الحزب الذي يحترم مواعيد نومك و يثمّن لك حريّتك لتعيش معنا بصحة و عافية و سعادة و قوة و نشاط و حيوية و أشياء أخرى لأنك تستحق هذا و لأننا سنبذل جهدنا لهذا فالواحد للجميع والجميع للواحد

فقط ملاحظة أخيرة للإنضمام : يمنع دخول أصحاب الاحتساء الثقافي حفظاً للسلامة العقلية


إذا أعجبتك هذه التدوينة يمكنك القراءة
عن التعداد السكاني و لعبة فتحي يا وردة
أو عن السيارات الكهربائية
أو حتى عن صديقي حعفر